وسع للكبير
مرحباً بك
فى منتدي الشيخ عاصم عبد الماجد
يشرفنا تواجدك معنا
وسع للكبير
مرحباً بك
فى منتدي الشيخ عاصم عبد الماجد
يشرفنا تواجدك معنا
وسع للكبير
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

وسع للكبير


 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 لحـــب والحــــرية

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin
Admin


الجنس : ذكر عدد المساهمات : 315
نقاط : 957
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 04/02/2013

لحـــب والحــــرية Empty
مُساهمةموضوع: لحـــب والحــــرية   لحـــب والحــــرية Emptyالإثنين فبراير 04, 2013 10:08 pm

بقلم.. م. عاصم عبد الماجد
بدا الارتباك واضحاً على وجه الفتاتين, فما كانت فاطمة تتوقع أن الطارق على الباب بعد غروب شمس يوم صيف طويل هي ناهد, وما كانت ناهد تدري كيف ستتصرف فاطمة مع زيارتها المباغتة لها, نعم هما زميلتا دراسة, فقد جمعتهما مقاعد كلية الطب ست سنوات كاملة حتى أوشكتا على التخرج, لكن أيا منهما ما كان بمقدورها أن تتخيل ولو للحظة واحدة أن لقاءا خاصا قد يجمعهما, وأين؟؟ في بيت أسرة فاطمة!!
كانت ناهد هي الأسرع في استرداد رباطة جأشها فبادرت بمد يدها إلى فاطمة التي مدت يدها بدورها وتصافحتا, وبعد لحظة صمت قصيرة قالت ناهد:
- هل تأذنين لي بالدخول؟!
- نعم.. نعم.. بكل تأكيد.. تفضلي.. تفضلي.
هكذا أجابتها فاطمة بصوت متلعثم وهي تفسح الطريق أمام ضيفتها وتسير بخطوات مضطربة كانت أقدامها متلعثمة هي الأخرى مثل لسانها.. وعندما استقر بهما المقام فوق مقعدين في غرفة الضيوف الأنيقة الواسعة كانت فاطمة لا تزال تردد في دهشة.
- تفضلي.. تفضلي.
وسرعان ما عاد الصمت يحكم قبضته الثقيلة على المكان, وللمرة الثانية بدأت ناهد الحديث:
-أنا أدرك أنك مندهشة من هذه الزيارة المفاجئة.
لم تجد فاطمة ما تجيب به فأومأت برأسها كأنها تسلم بما قالته ناهد, بينما راحت عيناها تتفرسان في وجه صاحبتها, شعرت للوهلة الأولى أن شيئا ما قد تغير في ناهد, إن هيئتها كما هي لم تتغير.. نفس الثياب الأنيقة المتوافقة مع أحدث صيحات الموضة والشعر المسترسل بسواده الفاحم, والوجه المستغني بجماله الطبيعي الأخاذ عن أية مساحيق وصبغات, لكن رغم ذلك فإن شيئا ما قد تغير, هكذا أحست فاطمة, وقبل أن تطلق العنان لخيالها في محاولة استكشاف كُنه التغير الذي طرأ على صاحبتها انتشلها صوت ناهد من أفكارها:
- أنا في حاجة إليك.. فأنا مقبلة على موقف صعب أحتاج إلى من يقف إلى جواري فيه وأظن أنك لن تتأخري في مساعدتي.
- أنا.. نعم بالتأكيد.. بكل تأكيد.
هكذا أجابتها فاطمة بلسانها بينما عقلها يزداد شرودا وحيرة.. "هل هذه حقا ناهد القوية العنيدة الجريئة؟!! ما الذي حدث لها حتى تأتي هكذا في ضعف واستكانة تطلب المساعدة" كان من العسير على فاطمة أن تصدق ما تسمعه, وكان من المنطقي أن تتخوف من طلب ناهد هذا, بل من مجرد مجيئها.. لكن فاطمة وجدت نفسها مندفعة لتصديق صاحبتها.. شيء ما بداخلها كان يحدثها أن ناهدا قد تغيرت, وهكذا وفي لحظة واحدة قررت فاطمة أن تتعامل معها بثقة كاملة فقالت بحماس واضح:
- ثقي تماماً أنني سأقف بكياني كله إلى جوارك مهما كلفني ذلك,
بعثت كلماتها هذه السكينة في قلب صاحبتها, فبدأ الارتياح على وجهها وزال عنه بعض توتره, وقبل أن تجد كلمات مناسبة تشكرها بها قامت فاطمة فجأة وهي تقول:
- سأحضر لي ولك كوبين من عصير الليمون. أمسكت ناهد يدها ولم تدعها تمضي لما تريده:
- لا داعي.. لست أريد شيئا.. فقط أريد التحدث إليك طويلا وأريد أن أجلس إليك طويلا.
- سنتحدث كما تريدين, ولكن بعد أن نشرب الليمون, فأنت وأنا كلانا متوتر بعض الشيء. صمتت لحظة ثم استطردت.
- ما أشد بخلي, هذا موعد العشاء, سأحضر الطعام أولا, فأنا لم أذق الطعام منذ صباح اليوم.. ستشاركينني الطعام بكل تأكيد.
- الطعام!! لم أذق طعاما منذ يومين.. ولكنني لا أستطيع. تنهدت ثم أكملت.
-أنا في حال يصعب معها أن آكل أو أشرب.. أرجوك للمرة الثانية أن تستمعي إليّ, فأنا في حاجة إلى أن أتحدث إليك.
لم تجد فاطمة مفراً من أن تستجيب لتوسلاتها, فجلست على مقعد مجاور لمقعدها ومدت يدها لتمسح على رأسها في رفق.
- حاولي أن تهدئي قليلا فأنت متوترة.
- حقا أنا متوترة.. لكن عندما أقول لك ما أريد أن أقوله, وعندما أحكي لك مأساتي سيزول توتري.. أرجوك ساعديني واستمعي إلىّ الآن..
أحست أنها ربما أثقلت على فاطمة فأردفت قائلة:
- التمسي لي عذرا الليلة..
ارتفع صوت المؤذن فتوقفت عن الحديث وراحت فاطمة تردد خلف المؤذن ما يقوله بصوت خفيض, أدركت ناهد أن ما تفعله صاحبتها شيء مستحسن فراحت هي الأخرى تردد خلف المؤذن بصوت منخفض, ارتعشت شفتاها وهي تقول:
- أشهد أن محمدا رسول الله.. أشهد أن محمدا رسول الله. وانسابت قطرات من الدمع الساخن فوق خديها, نظرت فاطمة بعيدا متظاهرة بأنها لم تلحظ دموع صاحبتها وانتظرت بعض الوقت كي تتمكن ناهد من تمالك نفسها وكفكفة دموعها, صارت الآن موقنة بأن تغيرا كبيرا قد طرأ عليها.
- لا أدري هل ستصدقينني أم لا, إذا قلت لك إني شعرت براحة عجيبة عندما دخلت بيتك منذ قليل, أحسست بسكينة وهدوء لم أحس بهما طيلة حياتي كلها, بل لقد اجتاحتني فرحة غامرة عندما جلست إليك, فأنا الآن في فرحة كبيرة لم اعرفها من قبل قط, هذه هي المرة الأولى التي أفرح فيها طيلة عمري.
لم تستطع فاطمة أن تخفي ملامح دهشة ارتسمت على وجهها فابتسمت ابتسامة غير مصدق لما يسمعه, فهمت صاحبتها ما تعنيه هذه الابتسامة فأردفت قائلة:
- أعرف ما يدور الآن بخلدك, فلا أحد يصدق أنني كنت تعيسة طوال أعوام دراستي بالجامعة, كلكم كان يحسبني في قمة السعادة, وأنا أملأ أرجاء الكلية ضحكاً وصخباً ولعبا ولهوا, كثيرون كانوا يظنون أنني استمتع بالحب والحرية.
تغيرت نبرة صوتها وعلت وجهها مسحة حزن وهي تكمل قائلة:
- بينما كنت ممزقة محطمة, أحاول أن أخفي شعوري بالضياع والحيرة خلف صخب الضحكات ورعونة التصرفات.
وللمرة الثانية أفلت الدمع من مقلتيها, غالبت دموعها وهي تصيح في أسى:
- ستة أعوام وأنا في الضياع والحيرة باسم الحب والحرية.. حتى صرت جارية ذليلة باسم الحب والحرية.
غلبها البكاء فانتحبت:
- أول أمس فقط عرفت الحب.. أول أمس عرفت معنى الحرية.
ماتت الأحرف فوق شفتيها وراح نشيجها يعلو شيئا فشيئا, ولم تجد فاطمة ما تقول سوى أن تدعوها لتستريح قليلا:
- توقفي الآن.. فأنت مرهقة.. نامي قليلا, ولنتحدث بعدما تستيقظين..
- أنام.. أنا لم أنم منذ ليلتين.
- فلتستريحي الليلة, ولنكمل حديثنا في الصباح, هل تقبلين استضافتي لك الليلة؟
كانت هذه أمنية غالية لناهد فقد كانت تود أن تمكث أطول فترة ممكنة مع فاطمة قبل أن تنطلق لتنفيذ ما اعتزمت عليه, لذا بادرت بقبول دعوتها شاكرة إياها ثم أكملت:
- لكني على أي حال لن أنام الليلة, فلم آت إلى هنا لأنام, وإنما جئت كي أتحدث إليك.
توقفت لحظة كمن تذكر شيئاً فجأة ثم صاحت:
- العشاء.. نحن لم نصل بعد العشاء.. هيا نصلي الآن.
لم تنتظر إجابة من فاطمة بل مدت يدها بسرعة فتناولت حقيبة صغيرة كانت بصحبتها وسرعان ما أخرجت منها جلباباً فضفاضاً وخماراً.. راحت تقلب الثوبين وقد كست وجهها فرحة طفولية غامرة, سارعت بارتدائهما وهي تقول:
- اشتريتهما بالأمس فقط.. اخترت هذا اللون لأني رأيتك تلبسينه دائما, أحببته لأني أحببتك.
التقت عيناهما لحظة كانت كفيلة لأن تكتشف خلالها فاطمة صدق ما تقول صاحبتها, داعبتها بقولها:
- منذ متى كان هذا الحب الجارف.
- لا تسخري مني, دعيني أكمل حديثي, بمجرد عودتي لبستهما, ووقفت أمام المرآة, شعرت برضا عميق, أحسست أن روحي تطهرت, أخذتني نشوة سرعان ما أفقت منها عندما نظرت إلى وجهي.. تذكرت من أكون أنا.. احتقرت نفسي.. بصقت في المرآة فوق وجهي مرة ثم مرة ثم مرة أخرى.. امتدت يداي فانتزعت هذه الملابس عن جسدي.. احتضنتها ودفنت وجهي فيها ورحت أبكي, قلت لنفسي هذه ثياب الطاهرات الصالحات أنا لا أستحقها, طويتها ووضعتها جانبا, في هذه اللحظة المريرة سألت نفسي لماذا؟!! لماذا اخترت لنفسي هذا الطريق المظلم الموحش؟! أين كان عقلي يوم أن سرت فيه؟! أين كان عقلي؟!.
كان صوتها يعلو ويرتفع مع نحيب مرير, حاولت فاطمة أن تهدأ من روعها لكن هيهات, هيهات.
- لقد كنت مجرمة, نعم أجرمت في حق نفسي لكن هناك أيضا مجرمون آخرون قذفوا بي إلى هاوية سحيقة, وليس من العدل أن أدفع وحدي الثمن, لابد أن يدفعه المجرمون كلهم.
- كانت عيناها تلمعان بوميض غريب وهي تكرر أن المجرمين سيدفعون الثمن قريباً.
- أنا لا أفهم شيئاً.. كلامك هذا يقلقني..
هكذا قاطعتها فاطمة وقد بدت عليها علامات القلق, بينما راحت ناهد تكمل:
- كنت أود لو امتلكت الجرأة لأحدثك عن كل شيء الليلة.. ولكنك ستعرفين كل شيء صباح غدِ.
- صباح غدٍ !!
- نعم.. نعم..
هكذا أجابتها ناهد بثقة وهي تمد يدها مرة ثانية إلى حقيبتها الصغيرة لتخرج كراسا صغيرة.. ارتعشت يداها وهي تقبض عليها بعنف.
- في هذه الكراس ستجدين القصة كاملة, وستعرفين حقيقة المؤامرة..
- مؤامرة.. أنا لا أفهم شيئا!!
- غداً ستعرفين.. سأحكي لك الآن الفصل قبل الأخير.
نكست رأسها وراحت تستجمع شجاعتها ثم انطلقت تحكي وقد لمعت عيناها بوميض عجيب:
- لن أحكي لك الليلة عن رحلة الضياع المريرة التي قطعت فيها شوطاً كبيراً وطويلاً, لكن سأقص عليك رحلة عودتي, فمنذ سنين ليست بعيدة وأنا غير راضية عن حالي وعن نفسي, كنت ممزقة وحائرة, نفس محطمة وقلب قاس وهدف ضائع كل هذا كله كان يختفي وراء بهرج كاذب وتصرفات عابثة وضحكات هازلة, كل هذا كان يمثل دوامة عنيفة تدور وأدور داخلها دون أن تكون لدي فرصة حقيقية كي أقف لأتفكر فيما أنا فيه وفيما صرت إليه, حتى عندما كانت تلوح لي فرصة للتوقف ولو قليلا كي أنظر إلى مسيرتي ما كنت أجد من نفسي القدرة على إتخاذ القرار بتصحيح مساري..
صمتت لحظة قبل أن تعاود الحديث:
- مرة واحدة امتلكت الشجاعة الكافية كي أوقف مسيرة لا أدري كيف استدرجت إليها.. كانت نفسي تعاندني وتريد أن تجذبني إلى ما فررت منه لكني قاومتها بحسم, ووقفت في وجهها بقوة وقلت لها "كفى كفى", وظننت أنني نجحت, وظننت أنني نجوت.
تنهدت في أسى مرير وأكملت وهي تنظر في أعين فاطمة:
- لكن المجرمين عرفوا كيف يحطموني, هزت فاطمة رأسها لتوحي بأنها لم تفهم شيئا, فلم تلتفت ناهد لذلك بل أردفت:
- منذ ثلاثة أيام فقط كنت في الفيلا التي تركني فيها والديّ بعد أن توفيا منذ أربعة أعوام, كنت أجلس أمام التلفاز أبحث عن شيء يسليني في قنواته الفضائية, شد انتباهي صور مظاهرات صاخبة كان أغلب من فيها شباب, تبدو عليهم حماسة لم أعهدها من قبل, خفق قلبي لهذا المشهد المهيب قبل أن أعرف من هم وماذا يريدون, فجأة وجدتهم يهتفون باسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, سرت قشعريرة عجيبة في جسدي, وجدت نفسي متلهفة على متابعة هذه المظاهرات.
لمعت بوجهها مسحة نور خاطفة وهي تقول:
- كانوا جميعا يعلو وجوههم نور عجيب, تذكرت أني رأيت مثل هذا النور من قبل على وجه شقيقك التوأم تامر .. أمازال تامر معتقلاً؟
- بلى.. مازال معتقلاً.
لم تك تنتظر إجابة منها فهي تعرف جيداً أنه مازال هناك حيث ذهب ولم يعد منذ خمسة أعوام, ولكنها جعلت سؤالها هذا تمهيداً لما تريد أن تقوله لشقيقته:
- عندما يخرج من معتقله اطلبي منه أن يسامحني.
- يسامحك!! لماذا؟!!
- أنا أعرف أنه صاحب قلب رقيق وسوف يسامحني.
- لا أفهم ماذا تقصدين.
- أعرف أنك لن تفهمي الليلة كثيرا مما أقوله.. لكن غدا ستعرفين.
- قالت ذلك ثم سارعت بتغيير دفة الحديث قائلة:
- العشاء الى الآن لم نصل العشاء هيا, هيا.
لم ينقطع طوال الصلاة نشيجها, فأدركت فاطمة أن التوبة قد طرقت أبواب قلبها وأن هذه دموع الندم. فرحت فاطمة بهذا وزادت فرحتها وهى تنظر فى وجه صاحبتها بعد الصلاة لترى ومضة نور تتلألأ فى قسماته الهادئة وقد زال عنه التوتر الذي رأته أول الليلة.
خلعت ناهد جلبابها وخمارها وطوتهما بحرص شديد وهي تنظر إليهما نظرة لا تخلو من فخار قبل أن تدسهما في الحقيبة الصغيرة, التقطت الكراس مرة ثانية وضغطتها بين أصابعها بحركة لا إرادية وكأنها قد صارت أغلى ما لديها.. للمرة الثانية اعتذرت عن قبول دعوة صاحبتها للعشاء.
- دعيني أكمل لك, أمضيت وقتاً طويلاً أمام التلفاز في تلك الليلة, عرفت أن سبب المظاهرات هو ما نشرته صحيفة أوروبية من صور مسيئة إلى رسولنا صلى الله عليه وسلم, عرفت أن هذه الصحيفة تصدر في الدانمارك.
لمعت عيناها وهي تنطق باسم هذه البلدة وتكرره:
- نعم الدانمارك.. تردد هذا الاسم على مسامعي كثيراً في هذه الليلة وفي كل مرة كنت أجد له وقعاً غريباً على نفسي.. شيء ما بداخلي كان يضطرب كلما سمعته.. شيء ما في ذاكرتي مقترن به.. فجأة اكتشفته فصرخت, إنه هو .... بهجت حامد!!
صاحت فاطمة في دهشة:
- د. بهجت حامد المدرس بالكلية؟
- نعم, إنه هو , فلقد أمضى دراسته العليا كلها هناك في الدانمارك, ومنها حصل على شهادة الدكتوراه ثم عاد معجباً بهذا البلد متشبعاً بقيمه ومبادئه.
ازدردت ريقها بصعوبة ثم أكملت وقد كست وجهها ملامح الفزع.
- اجتاحني خوف شديد, أحسست كأني أحد المتهمين بالإساءة إلى النبي الكريم.
تساءلت فاطمة في دهشة:
- أحد المتهمين؟!
لم تجب على سؤالها واستطردت في حديثها وكأنها لم تسمع..
- قمت مسرعة إلى الكمبيوتر لأبحث عن موقع الجريدة البذيئة التي نشرت الصور المسيئة للنبي, كنت أريد أن أعلم حجم الجريمة وقد سيطر علي هاجس أني متهمة أو متسترة على بعض المجرمين, فجأة غيرت وجهتي, لم أكتب اسم الجريدة, وإنما كتبت اسم النبي صلى الله عليه وسلم, وشرعت أبحث تحت هذا العنوان, زرت ليلتها مواقع كثيرة, وقرأت عنه صلى الله عليه وسلم, شعرت أني أحبه كثيراً وكثيراً, تعمق هذا الإحساس بحبه وأنا أقرأ ما كتبه أحد الشعراء:
يا ناق سيري للحبيب محمد فالحب بعد محمد لا يُرغب
وجدتني أحفظ هذا البيت وأكرره.. علت وجهها حُمرة خجل باهته وهى تقول:
- قلت في نفسي هذا هو الحب حقاً, فأي شيء هذا الذي كنا نعذب أنفسنا فيه, وأي شيء هذا الذي أشقانا, كيف غفلنا عن حبه صلى الله عليه وسلم ورضينا بالعذاب والشقاء, لأول مرة أحس بأني أرتفع وأعلو فكلما قرأت عن النبي صلى الله عليه وسلم عن صفاته وأخلاقه ووصاياه, كانت روحي تسمو حتى أنني خلت أنني أُحلق بعيداً, ثم أعود فأتذكر من أكون أنا, فأسقط فجأة منكسرة البال, ظللت هكذا أعلو وأرتفع فأهبط حتى كدت أيأس, تملكني شعور قاتل بأني أعيش الآن لحظة جميلة ستمضي سريعاً لأعود بعدها إلى ما كنت فيه, هتف بي هاتف بأن مثلي لابد أن يغوص سريعاً إلى أسفل ليغرق في المستنقع الذي عاش فيه, كنت كمن يواجه موجاً عاتياً في بحر مظلم في ليلة شاقة باردة موحش ظلامها.
أخذت نفساً عميق واستطردت..
- فجأة لمع أمامي نور, وأي نور.. قرأت حديث من قتل مائة نفس ثم تاب, ورغم أني كنت أجلس بمفردي إلا أنني وجدت نفسي أقرأ هذا الحديث بصوت عال :
- (كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة وتسعين نفساً, فسأل عن أعلم أهل الأرض فدُل على راهب فأتاه فقال: إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة؟, فقال: لا فقتله فكُمل به المائة, ثم سأل عن أعلم أهل الأرض فدُل له على رجل عالم, فقال: إنه قتل مائة نفس فهل له من توبة؟ فقال: نعم, وما يحول بينه وبين التوبة؟, انطلق إلى أرض كذا وكذا, فإن بها أناساً يعبدون الله تعالى, فاعبد الله معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها ارض سوء, فانطلق حتى إذا نصف الطريق أتاه الموت فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب, فقالت ملائكة الرحمة: جاء تائباً مقبلاً بقلبه إلى الله تعالى, وقالت ملائكة العذاب أنه لم يعمل خيراً قط, فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم - أى حكماً – فقال : قيسوا بين الأرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له, فقاسوا فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد, فقبضته ملائكة الرحمة).
اختنق صوتها بالبكاء فماتت الكلمات فوق شفتيها, فوجئت بأن فاطمة تبكي هي الأخرى إلى جوارها, قالت من بين دموعها:
- وأنت ما يبكيك؟!! فهذه دموع الخاطئين.
تمتمت فاطمة
- كل بني آدم خطائون, وخير الخطائين التوابون.
- بكيت ليلتها طويلاً, أحسست بأن دموعي تغسلني, , شعرت أن بكائي يطهر روحي, فاستسلمت للبكاء, كنت طيلة حياتي كلما بكيت ضعفت, إلا هذه الليلة فإن البكاء كان يعطيني إحساساً بالقوة, ويمدني بالعزيمة, فجأة شعرت بأني تخلصت من أثقال كئيبة كنت أحملها فوق رأسي, أيقنت لحظتها أنني تغيرت.. وجدت من نفسي عزمة أكيدة أن ألقي خلف ظهري ما كنت فيه, وفي غمضة عين صرت شخصاً أخر وطويت صفحة حياتي السابقة, نمت ليلتها ملء أجفاني كما لم أنم من قبل.
التفتت نحو فاطمة فوجدتها تصغي إليها مستسلمة فأردفت:
- في الصباح استيقظت ربما للمرة الأولى في عمري مع أذان الفجر قمت فتطهرت وصليت وجلست في سكينة استرجع ما حدث لي في الليلة السابقة, لا تستطيعين أن تتصوري كم كانت فرحتي طاغية عندما وجدت نفسي لا تزال عند عزمتها القوية بأنها لن تعود إلى ما كانت فيه, شعرت بأن الحلاوة التي تذوقتها في الليلة الماضية كما هي بل ربما زادت, كنت سعيدة أحسست أن للسعادة معنى أخر يختلف تماماً عما كنت أعرفه من قبل, أيقنت أن ما كنت فيه كان تعاسة مظلمة كئيبة, شعرت أنني قد تحررت, ذقت لأول مرة معنى الحرية, نعم دعيني أعترف لك أنني كنت قبل هذه الليلة جارية بل أسيرة في سجن قاس, استعبدتني نفسي ورغباتها.. راح صوتها يعلو وهي تقول:
- واستعبدني المجرمون..
ربما للمرة العاشرة تساءلت فاطمة هذه الليلة: أنا لا أفهم شيئا.. من هم المجرمون؟!
- ستعرفين.. ستعرفين غدا..
تنهدت فاطمة في قلق ولم تجد شيئا تقوله بينما أردفت ناهد:
- هل تقبلين أن نكون صديقتين ولو لليلة واحدة؟!
ابتسمت وهي تجيبها.
- ولماذا ليلة واحدة.. لماذا لا نكون دائما.
لمع في عينيها السرور, وهي تقول:
- هذا شرف عظيم.. لكن تكفيني هذه الليلة.. لست أطمع في أكثر من ذلك.
هزت فاطمة رأسها وقالت:
- ليكن ما أدرت فليست هذه أول عجائبك في ليلتنا هذه.
ضحكت وهي تكمل:
- لكن يبدو أن صداقتك هذه ستقتلني جوعاً, فأنا لم آكل منذ أن رأيت وجهك الصبوح.
علت وجهها ابتسامة رقيقة يملؤها الخجل وسارعت تقول لفاطمة:
- سآكل مجاملة لك فقط ..
بعد الطعام حاولت إقناع ضيفتها بأن تنام ولو قليلا لكنها اعتذرت, قامت كل واحدة منهما تصلي, بعد قليل مضت فاطمة إلى غرفتها لتنام وتركت ناهداً قائمة في صلاتها وبيدها المصحف, تقلبت فاطمة كثيراً في فراشها وهي تسترجع أحداث تلك الليلة العجيبة, كانت سعيدة وكانت أيضا خائفة, أما كونها سعيدة فهذا شيء اعتادته كلما علمت أن فتاة من بنات جيلها قد أنار الهدى طريقها وقررت أن تمضي في طريق الله تعالى, وإن كانت سعادتها هذه المرة أكبر كثيراً من كل مرة مضت.. لكنها في نفس الوقت كانت قلقة خائفة على ناهد فهي تعلم عنها جرأتها وقد أحست من كلامها الليلة أنها ستقدم على شيء خطير, راحت تسترجع كلماتها التي دارت كثيرا عن المجرمين والثمن الذي يجب أن يدفعوه, حاولت أن تستشف من ثنايا هذه الكلمات ما قد تقدم عليه ناهد .. لم تتوصل إلى شيء محدد.. لكنها كانت موقنة أن ناهداً عازمة ومصممة على فعل شيء غير مألوف, أجهدها التفكير بحثا عن طريقة لإقناع ناهد بأن تبوح لها بما هي مقدمة عليه, أخيراً اهتدت لفكرة رأتها مناسبة, في الصباح لن تذهب لا هي ولا ناهد إلى الكلية, ستبقى معها يوماً آخر وليلة بكمالهما, ستتحدثان طويلا, لابد وأن تبوح ناهد في النهاية بما يعتمل في نفسها, لن تستطيع أن تصمت طويلا, هكذا خيل إلى فاطمة أنها اهتدت إلى الحل المناسب, بعد صلاة الصبح مباشرة بدأت تنفذ خطتها لإقناع ناهد بالبقاء معها.
- هل نمت شيئا الليلة؟.
ابتسمت ناهد ولم ترد على سؤالها فأردفت هي:
- الإرهاق والتوتر يرسمان خطوطاً واضحة على صفحة وجهك.. أنت لم تنامي منذ ثلاثة أيام.. أنت تفهمين جيدا أن عدم النوم لفترة طويلة يؤثر دون شك على قدراتك الذهنية وعلى حالتك النفسية, وربما, أقول ربما يتخذ الإنسان في مثل هذا الحال قرارات أو يقدم على تصرفات قد يندم عليها بعد ذلك.
ابتسمت ناهد مرة ثانية ولم تنبس شفتاها بكلمة, بدأ الضيق يظهر على وجه فاطمة فقالت في لهجة جعلتها حاسمة:
- لن نذهب اليوم إلى الكلية, سننام الآن بعض الوقت وعندما نستيقظ سنكمل حديثنا, أنا مشتاقة إلى استكمال الحديث معك.
أومأت برأسها وهي تجيب على دعوتها.
- وأنا أيضا في أشد الحاجة الى الحديث معك, أتعرفين فيما كنت أفكر ليلة البارحة؟!
- فيم؟!
- كنت أسأل نفسي هل يقبل الله تعالى توبة العبد مهما كانت ذنوبه؟!
- تنهدت فاطمة فى ارتياح, أحست أن ناهداً استجابت لها وسوف يتواصل الحديث بينهما فأجابتها بسرعة:
- نعم, قطعاً, مهما كان ذنبه.
- وإن تكرر ذنبه هذا كثيرا؟
- وإن تكرر كثيرا.
- وإن كانت ذنوبه عظيمة وكبيرة جداً؟.
- وإن كانت ذنوبه عظيمة وكبيرة, أنسيت حديث من قتل مائة نفس؟!
- لا لم أنس ولكني خائفة..
- ابتسمت فاطمة وراحت تربت على كتفيها..
- إذن اطمئني, ما دمت خائفة اطمئني, فالخوف علامة صدق العبد, وهي علامة نجاته.
- حقاً تقولين؟
- نعم.. نعم.. يقول الله تعالى: (ولمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ), هل أدلك على شيء يشرح صدر العبد؟
- هزت رأسها بالإيجاب.. فأردفت فاطمة..
- فعل الطاعات والإكثار من العبادات, فإنه يمحو وحشة المعصية من القلب ويمسح ظلمة المعصية عن الوجه وقد قال الله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) وكان الصحابي الجليل أبو عبيدة بن الجراح يقول, (بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات).
نهضت مسرعة وهى تقول:
- الإفطار سأتركك قليلاً لأجهز الإفطار لم تحس ناهد بقيامها ولا التفتت لما قالته فقد كانت تردد فى نفسها (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) .. (بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات) سرحت بفكرها قليلا في (السيئات القديمات) وتساءلت عما يمكنها أن تفعله الآن من (الحسنات الحديثات), نظرت إلى ساعة يدها قد تجاوزت السابعة بحوالي عشرين دقيقة, قالت في نفسها مازال ما بيني وبين التاسعة متسع من الوقت, قررت بسرعة كعادتها أن تتدارك السيئات القديمات بالحسنات الحديثات, طيلة الوقت المتبقي بطريقة عجيبة طرأت للتو على ذهنها.. نهضت مسرعة وراحت تعدل من هندامها, تذكرت (الكراس) التي لابد أن تتركها لفاطمة, راحت تحدث نفسها.
- "ربما تقرؤه فاطمة بمجرد نزولي, أنا لا أريد أن تعرف شيئا قبل التاسعة.."
قررت أن تنتظر في منزل فاطمة حتى قبيل التاسعة.. مرة ثانية ألحت عليها رغبة عارمة في الذهاب الآن لتمضي ما تبقي من الوقت بالطريقة التي طرأت منذ ثوان قليلة على ذهنها أعادت التفكير وراحت تسأل نفسها.
"هل تصل فاطمة إلى نهاية الكراس قبل التاسعة, لا, لا.. هذا مستبعد فلم يبق إلا ساعة ونصف", تنهدت في ارتياح وفي هذه اللحظة دخلت فاطمة تحمل صينية الطعام, أسقط في يدها عندما رأت ناهد واقفة وقد تأهبت للانصراف, وضعت الطعام جانباً وقالت في لهجة حازمة لا تخلو من نبرة خوف:
- لن تنصرفي الآن.. بل لن تنصرفي اليوم.
أجابتها بلهجة أشد حسماً..
- سأذهب..
- أنا خائفة.. خائفة عليك.. أرجوك أن تمكثي معي اليوم, لن أسامح نفسي إذا تركتك تذهبين..
- ترقرق الدمع في عيني ناهد, فهذه المرة الأولى منذ وفاة والديها التي تستشعر فيها أن أحدا من البشر يخاف عليها ويريد الخير لها, كل من عاملته كانت تستشعر فيه رغبة واضحة في أن ينتفع من وراء معاملته لها, إما من مالها أو من جمالها, اليوم.. اليوم.. فقط, عرفت نوعاً فريداً من البشر, لانت ملامح وجهها وهي تقول لصاحبتها في رقة.
- لا تخافي يا صديقتي.. لا تخافي.. لن يحدث لي مكروه.
-إذن لماذا تريدين الانصراف الآن؟.. محاضرات اليوم لن تبدأ قبل العاشرة.
- سأصارحك القول.. سأذهب الآن إلى النادي..
- النادي؟
- نعم..
- في السابعة والنصف صباحاً..
- نعم.. هل في ذهابي إلى النادي ما يقلق.
أسقط في يد فاطمة.. لكنها لم تيأس..
- إذن انتظري لحظة.. سأتجهز للخروج وأذهب معك..
- سأذهب بمفردي
- لا بل سأكون معك
- بل بمفردي.
-أنت عنيدة.
- فليكن.
- إذن قولي لي ماذا ستفعلين هناك؟
- سأجلس بمفردي.
- لماذا؟.
- مرة ثانية ترددت ثم أجابت:
- علىّ دين لابد أن أسدده, (بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات).
- أرفقي بي أنا خائفة.
- اطمئني يا صديقتي بعد قليل عندما تذهبين إلى الكلية في محاضرة العاشرة ستجدينني هناك..
مدت يدها نحو فاطمة, فلم تمد فاطمة يدها إليها, فاجتذبتها ناهد بقوة وعانقتها عناقاً حاراً, جعل كلتا الفتاتين تستشعران كم صارت كل منهما تحب الأخرى حباً كبيراً.
بصعوبة انتزعت ناهد نفسها من بين يدي صاحبتها التي راحت تراقبها بنظرات قلقة وهي تهبط السلم مسرعة .. كاد قلبها ينخلع وهي تسمع محرك سيارة ناهد يزمجر كأنه بركان وسرعان ما اختفى صوته مباعداً بينها وبين صاحبتها..
عجيبة تلك النفس البشرية.. ليلة واحدة كانت كفيلة بأن تقرب بين هذين القلبين بصورة يصعب تصديقها, حتى أن كل واحدة منهما كانت تشعر أن قلبها يكاد ينفطر ألماً وحزناً في لحظة الفراق هذه.
ربما كان قلب ناهد يستشعر ألم الفراق أشد مما استشعرته فاطمة, لسبب بسيط .. فناهد كانت موقنة في لحظة الفراق هذه أنها لن ترد هذا البيت مرة أخرى قط, كانت الليلة الماضية أول عهدها به وكان صباحها هو أخر عهدها به, هكذا كان قرارها قبل أن تطأ قدماها هذا البيت بعد غروب شمس يوم صيف طويل.
أما قلب فاطمة فقد سكنه بجوار الألم والخوف على صاحبتها وحشة غريبة, فلأول مرة ربما في حياتها كلها تستشعر أن المنزل الذي ولدت وعاشت فيه قد صار موحشاً وكأنها قد صارت فيه غريبة لمجرد أن ضيفة حلت به ليلة بعد غروب شمس يوم صيف طويل ثم غادرته في الصباح.
عادت فاطمة إلى الغرفة تقلب البصر في أرجائها وكأنها غير مصدقة أن صاحبتها قد غادرت, ألقت بنفسها فوق أول مقعد واجهها ووضعت رأسها بين يديها واستسلمت لهواجسها ومخاوفها, لم تدر كم من الوقت مر عليها قبل أن تتذكر ذلك الشيء المهم, انتفضت واقفة وهي تصيح:
- الكراس..
**********
كانت ناهد تقود سيارتها بسرعة مبالغ فيها, لم يبق أمامها سوى ساعة أو أكثر قليلا كانت مصممة أن تمر خلال هذه الساعة على أماكن كثيرة وتقطع عشرات الكيلومترات كي تسدد ديناً عليها, كي تبادر السيئات القديمات بالحسنات الحديثات التفتت ربما للمرة العاشرة هذا الصباح إلى المقعد الخالي إلى جوارها حيث وضعت حقيبة يدها لتطمئن أنها لم تنسها في بيت فاطمة.
***********
في أول صفحات الكراس قرأت فاطمة كلمتين كتبتا بخط واضح
(الحب والحرية)
وفي الصفحة التالية كان الإهداء (إلى كل فتاة تؤمن بالله)
بدءاً من الصفحة الثالثة جاءت الحكاية:
- هذه حكايتي.. أسوقها إلى كل فتاة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم لتحذر أن تسير مثل سيري أو تمضي في طريقي.. هذه حكايتي أكتبها اليوم بدمع حار بل بدماء قلب منفطر, بعد أن دفعت ثمناً غالياً, دفعته من شرفي.. من كرامتي.. من جسدي, من ديني, من عرضي, من روحي, وبعد قليل سأدفع القسط الأخير من الثمن.
لست في حاجة الآن كي أنمق الحديث ولا أن أصنع مقدمات لا ضرورة لها ها هنا, كانت البداية يوم أن تفتح وعيي على الدنيا لأجد نفسي مرفهة مدللة, فانا الابنة الوحيدة لأب ثري, وقد توفيت أمي قبل أن أكمل الخامسة من عمري, فصرت كل شيء في حياة أبي الذي أغدق علي من كل شيء، فنشأت آمر فأطاع, وأشير فأجاب لكل ما أطلبه, نسى والدي رحمه الله في زحمة عراكه مع الحياة ليؤمن مستقبلي ويضمن لي حياة رغدة, نسي أن يؤمن مستقبلي في الآخرة بتنشئة متدينة وصحبة صالحة, والله تعالى يغفر له فقد رحل عن دنيانا.
عندما وطئت قدماي أعتاب الجامعة طالبة في كلية الطب كما كانت رغبة أبي وكما كان طموحي أنا أيضا بدأت مأساتي ففي أول أيام الدراسة التقيت به إنه (بهجت حامد), كان قادماً - كما عرفت بعد ذلك - من الدانمارك بعد أن أنهى دراسته العليا وحصل على شهادة الدكتوراه.
- لست هنا لأدرس لكم بعض فروع علم الطب أو المواد المؤهلة له فحسب, فأنا صاحب رسالة قبل أي شيء, أنا أريد أن أقدم خدمة لهذه البلد, أن أوقظ هذا الشعب.. أن أبعث فيه روح التقدم والحضارة, فالذي ينقصنا كي نتقدم ليس مجرد معلومات في الطب أو الهندسة أو غيرها وإنما ينقصنا شيء أهم من ذلك كله.
أشار بيديه إلى جموع الطلاب المحتشدة في المدرج أمامه وهو يسألهم:
- هل فيكم من يمتلك الشجاعة ليقول لي ما الذي ينقصنا؟
فوجئنا بشاب ينهض متحمساً ليقول:
- ينقصنا وازع من داخلنا يحركنا, وإلى الأمام يدفعنا, وينقصنا أيضا مُثل عليا نحو الكمال تشدنا.
- لقد قلت كلاماً حسناً, لكن هل لك أن تقول لي ولزملائك ولزميلاتك ما هذا الوازع؟, وأين نجد المُثل العليا التي حدثتنا عنها؟
عاد الشاب ليقول في ثبات:
- أما الوازع فهو الدين, وأما المثل الأعلى فهو رسول الله صلى الله عليه سلم.
كان يريد أن يسترسل ما قاله لكن د. بهجت حامد قاطعه وبدأ الضيق يظهر على وجهه وقال في نبرة حادة:
- هل لديكم رأي مغاير؟.
لا أدري كيف واتتني الشجاعة وقتها لأنهض وأتكلم, قلت وليتني ما قلت:
- تنقصنا الثقة بالذات.
سألني وقد لمعت عيناه ورقت كلماته:
- وكيف أيتها الآنسة نحقق الثقة بالذات؟
تلعثمت ولم أدر ما أقول, فبادر وكأنه يوحي إلى بالجواب :
- في أي مناخ تتحقق الثقة بالذات, في مناخ القهر والكبت, أم في مناخ الحرية والانطلاق.
- بل في مناخ ملؤه الحرية والانطلاق.
انفرجت أساريره فقال مخاطباً جموع الطلاب:
- لقد أحسنت زميلتكم الآنسة....
التفت إلى في رقة ليقول:
- عفواً ما اسمك؟
- ناهد.
- لقد أحسنت زميلتكم الآنسة ناهد.. وهذه هي الرسالة التي تعلمتها في الدانمارك والتي وهبت حياتي لنشرها في بلادنا كي نلحق بركب الحضارة.. فإن الحرية هي طريق الحضارة, بل إن الحرية هي الحضارة.
قام الشاب معترضاً في هدوء:
- بل الإسلام هو الحضارة..
صاح به د. بهجت:
- هناك أدب في الحديث.. ما اسمك؟!
قال مبتسماً في ثقة:
- تامر أحمد كريم.
بعد يومين فوجئت بشاب يعرفني بنفسه "عماد حمدي البرنس" ابن رجل الأعمال الشهير, ويخبرن أن د. بهجت بانتظاري في مكتبه بالدور الثالث, صعدت برفقة هذا الشاب الذي يسبقني في الكلية بعام دراسي واحد - كما أخبرني - وعند باب المكتب استأذن منصرفاً في أدب ظاهر.
أثنى د.بهجت على كلامي الذي قلته قبل يومين ثناءاً كبيراً, وأخبرني أنه يريد التعرف على أفكاري عن قرب, وبعد وقت طويل من الحديث المتبادل أخبرني أنه يثق بي ثقة كاملة وأنه متأكد من أني قادرة على تقديم العون له في القيام برسالته السامية لتحرير المجتمع وتحديثه وتنويره, هكذا كان يقول, تعددت اللقاءات بيننا في مكتبه, وفي كل مرة كان حريصا على أن يبث فيّ بعضا من أفكاره ومبادئه وتصوراته عن الحرية كما رآها وعاشها في أوروبا, كان أيضا يحدثني عن أحلامه وطموحاته في أن يرى بلادنا وقد صارت مثل أوروبا, أقنعني وقتها أن لا طريق للتقدم غير ذلك.
في أحد لقاءاتنا أخبرني أن البداية لابد أن تكون في الجامعة, حيث صفوة أبناء المجتمع وخلاصة العقول المفكرة, كان يؤكد في يقين أنه متى استقرت هذه المبادئ في مجتمع الجامعة فسوف تنتقل في سهولة ويسر إلى باقي قطاعات المجتمع الأكبر, كان يبدي سروره وتفاؤله لأن التيار الإسلامي قد غاب منذ مدة طويلة عن الجامعة, كان يرى دعوة هذا التيار أكبر عائق أمام انتشار أفكاره.
في أحد اللقاءات صارحته بأني مقتنعة إلى درجة كبيرة بما يقول وأني على استعداد لتنفيذ ما يراه محققاً لأهداف رسالته, قبل أن ينتهي هذا اللقاء الذي كان طويلاً وجدته يلمح إليّ بأنني لن انجح في أداء دوري إلا إذا كنت صاحبة رسالة حقاً, ولن أكون صاحبة رسالة إلى إذا عشت بكياني كله مع مبادئي هذه وأفكاري وإلا إذا صارت حياتي ذاتها متوافقة مع هذه المبادئ والأفكار.
**********
أوقفت ناهد سيارتها أمام باب النادي, قفزت مسرعة وانطلقت إلى الداخل غير عابئة بنظرات الحراس المتعجبة من هذا الحضور المبكر, كان صدرها يعلو ويهبط بعنف وهي تتجه إلى تلكم القاعة المنزوية, دفعت الباب وانطلقت نحو منضدة بعينها, ألقت بنفسها فوق المقعد وانفجرت في بكاء مرير.
فها هنا كان لقاؤها الأول خارج أسوار الجامعة ببهجت حامد, ها هنا اخبرها أنها بدأت تمارس أفكارها وتعيشها بكيانها وروحها وليس فقط بلسانها وعقلها.
من هنا بدأت مسيرة ضياعها الكبرى.. واليوم رأت حقاً أن عليها أن تبدأ من هنا أيضاً مسيرة توبتها واعتذارها وخلاصها, عندما تمالكت نفسها قليلا راحت تستغفر ثم تتلو قوله تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ), ثم تقول هذه بتلك.. هذه بتلك..
كانت مشاعرها مزيجاً من الندم والخوف والرجاء واليأس والأمل, فكلما تمثلت أمامها ذنوبها الكبار وأعوام وسنين المعاصي الطوال كان الخوف يغلبها حتى لا يدع لها فسحة من رجاء أن تستطيع كلمات الاستغفار التي يلهج بها لسانها ولا دموع التوبة التي تتتابع غزيرة من عيونها ولا حرقة الندم التي تكوي قلبها أن تمحو بعضا من هذه الذنوب .. لكنها سرعان ما كانت تعود فتتذكر سعة رحمة الله وكيف تاب على من قتل مائة نفس حتى أوحى إلى الأرض الطيبة أن تقترب منه وإلي الأرض الخبيثة أن تبتعد عنه حتى يموت وهو إلى الأرض الصالحة أقرب ، إذا تذكرت ذلك هدأ خوفها وزاد أملها ورجاؤها في الله تعالى أن يتقبل توبتها برحمته وفضله, أفاقت ناهد من صراعها النفسي المرير على صوت أحد العاملين بالنادي:
- آنسة ناهد.. ما هذا البكاء؟ ماذا حدث؟
لم تجد ما ترد له عليه فصمتت, وإن كانت لم تحاول إيقاف دموعها ، وأنى لها أن تستطيع . استطرد المتحدث:
- وأين د.بهجت؟!
غاص تساؤله في صدرها كما لو كان نصل خنجر مسموم, فالكل هنا يعرف علاقتها بهذا الرجل, وجدت نفسها دون أن تدري تقول:
- لقد مات اليوم.
وقامت مسرعة لتغادر المكان.
**********
راحت فاطمة تقلب صفحات الكراس وتتابع ما كتبته صديقتها ناهد:
تعددت لقاءاتنا حتى دعاني في يوم إلى زيارته في منزله, ببساطة شديدة ذهبت إليه هناك مع علمي أنه يسكن بمفرده وأنه غير متزوج, لأن الزواج في رأيه قيد على الحرية, وهو لا يحب القيود.
كنت أسقط بسرعة نحو الهاوية, وكان لابد أن أصل إلى القاع.. وبالفعل سقطت.. خرجت ذات يوم من عنده محطمة ممزقة, صرت أشلاء فتاة وبقايا نفس ضائعة, ومع ذلك كان من الممكن أن أتدارك نفسي رغم شناعة ما فعلته ورغم فظاعة السقطة التي سقطتها.. لكني كنت أفتقد ما أتمسك به, كنت فارغة خاوية, ما كان بالقلب ذلك الوازع الذي حدثنا ذات يوم عنه زميلنا تامر وهو يقول "نحتاج إلى وازع من داخلنا يحركنا", كنت في أشد الحاجة وقتها إلى قيمة عليا تشدني وتنتشلني من عثرتي هذه, فكم من إنسان تعثر مرة ثم قاوم نفسه حتى انتزعها من عثرتها, لكني فشلت في ذلك, بل لم أحاول ذلك أصلا, فظل الشعور القاتل بالضياع والتمزق والحيرة ومع ذلك ظل وللأسف سقوطي المتتابع, فتكررت زياراتي له ولقاءاتي الآثمة معه, وبدلاً من أبحث عن الدواء رحت أرتوي من الداء حتى الثمالة, وفي كل مرة كان يحاول دعم معنوياتي بكلمات فارغة باردة عن الحرية, حتى عدت أكره تلك الكلمة لأنها كانت ثمن شرفي وكرامتي, إلى أن عرفت مؤخرا المعنى الحقيقي للحرية.....
أغلقت فاطمة الكراس وغطت وجهها الحزين بيدين مرتعشتين, لقد كانت تسمع ما يقال عن علاقة ناهد ببهجت حامد, لكنها ما كانت تتوقع أن زميلتها قد هوت في هذا المستنقع شديد القذارة.
**********
مضت بسيارتها صوب المنتزهات والحدائق, وهي تنظر بعينين دامعتين إلى كل موضع جمعها به, وقد امتلأ قلبها بحسرة وندم لم تعرف لهما مثيلاً من قبل, لكن في ذات الوقت كانت السكينة تغلف روحها وتهدأ من روعها وهي تتلو قول الحق تعالى: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ), وتتذكر مقولة الصحابي أبي عبيدة: (بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات), فتستغفر مراراً قبل أن تردد: (هذه بتلك.. هذه بتلك), فجأة تذكرت شيئاً مهما.. تعجبت كيف نسيته ولم تتذكره إلا الآن.. نظرت في ساعتها لم يبق إلا نصف ساعة, تساءلت في نفسها هل فات الوقت.. تمتمت في إصرار: لا.. لا, لكنها لا تعرف له اليوم مكانا تجده فيه, رغم ذلك كان مصرة إصراراً غريباً على أن تبحث عنه وتلقاه قبل التاسعة, لابد أن تعتذر له كي تبادر السيئات القديمات بالحسنات الحديثات..
إنه عم محمود حارس الفيلا السابق, فمنذ أن تفتحت عيناها على الدنيا وهو قابع هناك خلف باب الحديقة الخارجي, ولدت وهو هناك, ومات أبوها وهو هناك, لكنها طردته قبل عامين, صاحت فيه:
- أنا حرة.. لا تتدخل في حياتي.
- يا بنتي أنا خائف عليك.. ولولا مكانة والدك رحمه الله في قلبي ما تحدثت إليك..
قاطعته يومها بغلظة:
- اسكت.. أنت هنا لحراسة الفيلا فقط ..
-أنت يا بنيتي أغلى من الفيلا وما فيها.. حمايتك عندي أهم من الفيلا..
- لا شأن لك بذلك..
-إذن سأرحل يا بنيتي.. لا أستطيع أن أراك أمام عيني تضيعين وأنا صامت من أجل لقمة العيش.
- سيكون رحيلك أفضل بكل تأكيد.
عضت على شفتيها وهي تتذكر هذه العبارة الوقحة التي طردته بها منذ عامين, لكن أين تجده الآن؟ فجأة تذكرت أن شقيقه كان يحرس الفيلا المجاورة, ضغطت بقوة على دواسة الوقود وانطلقت نحو الفيلا تسابق الزمان.
- البقاء لله يا هانم, محمود توفى الشهر الماضي, هاجمه المرض الخطير ولم يجد ثمن العلاج.
أسقط في يدها وهي تسمع نعي عم محمود من شقيقه, ارتبكت لحظة قبل أن تفتح باب السيارة وتدعوه لمصاحبتها ليدلها على منزل أسرة عم محمود.
**********
كادت فاطمة أن تلقي بالكراس بعد ما قرأته عن العلاقة التي كانت قائمة بين ناهد وبهجت حامد, شعرت بإحراج شديد أن تطلع على ماضي غير مشرف لزميلة لها, حتى وإن أذنت لها تلك الفتاة بالاطلاع عليه, إلا أن الشعور بالقلق على صاحبتها جعلها تغير رأيها وتعيد فتح الكراس مرة أخرى.
بعد فترة من الضياع ظهر في أفق حياتي المظلم شيء جديد, تعلقت به بسرعة أملا في أن أجد المخرج من أزمتي التي صنعتها بيدي والتي صرت أسيرة لها ولا أستطيع فكاكاً منها, فقد كانت علاقتي ببهجت أشبه بالإدمان فكنت أبحث عنه وأسارع إليه رغم أني لا أحبه ولا أحترمه, عندما تعرفت على (عماد حمدي) ابن رجل الأعمال الأكثر ثراء (حمدي البرنس) أحسست أني عثرت على ضالتي المنشودة وأن الحب قد عرف طريقه إلى قلبي, كم كانت فرحتي عندما أخبرني بأنه يحبني وأنه معجب بشخصي منذ أن رآني أول مرة عندما طلب منه د. بهجت حامد أن يبلغني أنه بانتظاري في مكتبه, شعرت أن عماداً بقوة شخصيته سوف ينتشلني مما غرقت فيه, وبحبه الكبير سوف يكون عوناً لي على استرداد نفسي من الضياع.. تعلقت به بشدة وانجذبت نحوه وألقيت قلبي وروحي ونفسي بين يديه, بعد فترة ليست بالقصيرة وجدتني أسلم له جسدي باسم الحب هذه المرة, نعم كنت أحبه بجنون.. لذا لم أبال بأن أنزلق معه في المستنقع الذي ظننت أنه جاء لينتشلني منه, وهكذا صرت مرة ثانية جارية, ولكن هذه المرة باسم (الحب), وأنا الذي لم أتخلص بعد من رق (الحرية) .. اكتشفت أني غبية بلهاء وأن كلا الرجلين قد تلاعب بي وأنى أصبحت سلعة رخيصة تباع ليلة بشعار واه عن الحرية, وتباع في الليلة التالية بشعور كاذب اسمه الحب, حتى صرت أكره كلمتي الحب والحرية, وليت الأمور توقفت عند هذا الحد, فقد فوجئت بالضابط (ح.م), قائد الحرس الجامعي بكليتنا يدخل علينا نحن الثلاثة بمكتب بهجت حامد ذات صباح, وبعد أن عرّفه بهجت بي وبعد أن أثنى عليّ بكلماته المكررة عن تحرري وتفتح عقلي وشجاعتي, وبعد أن أيده عماد حمدي في كل ما قاله بل وزاد عليه, وجدت الضابط يلتقط خيط الحديث منهما بسرعة وكأن الأمر مرتب بين الثلاثة:
- بالطبع أنت تعرفين أن هناك أفكارا غير مرغوب فيها تنتشر اليوم بين الطلاب, ونحن نريد مساعدتك لمحاصرة مثل هذه الأفكار.
اندفعت بشجاعتي المتهورة لأسأله عن الدور الذي يمكنني أن أؤديه مؤكدة أنني لن أتأخر عن فعل شيء يتفق مع أفكاري ومبادئي, تشجع فقال:
- نريد أن نعرف أسماء الذين يتزعمون الدعوة لهذه الأفكار بين الطلبة والطالبات, فقط نريد أن نوجه لهم النصح, تذكري دائما أننا نعمل من أجل مصلحة البلد.
وجدتني أندفع لأملي علي سمعه أسمين اثنين, تامر أحمد كريم.. وفاطمة أحمد كريم..
بعد أيام قليلة تم اعتقال تامر, ولا يزال إلى يوم كتابتي هذه الصفحات رهن الاعتقال, وإنني أطمع أنه سوف يسامحني إذا قرأ اعترافاتي هذه وإذا ما أدرك أني وأنا في عماية الضلالة كنت مدفوعة دفعاً إلى تحطيم من لم يسقط مثلي في مهاوي الرذيلة, نعم كنت أحاول الانتقام منهم, واليوم جاء الدور عليّ لانتقم من نفسي ولأحطم من شاركني في جرمي.
هل كانت فاطمة غاضبة وهي تقرأ اعترافات صاحبتها بأنها هي التي تسببت في اعتقال تامر شقيقها وتوأمها دون ذنب أو جريرة, نعم بالقطع كانت غاضبة, ولكنها كانت أيضا خائفة على ناهد وهي تقرأ كلماتها الأخيرة عن الانتقام.
**********
قبل أن تنهي زيارة العزاء السريعة لأرملة عم محمود كانت قد خلعت كل الذهب الذي تزين به عنقها وأذنها ويديها لتعطيه للأرملة المكلومة التي لمحت في عينيها المملوءتين بالحزن نظرة اتهام موجهة ضدها, قرأت في عينيها اتهاماً مريراً بأنها وراء وفاة زوجها.
لم تك في حاجة إلى هذا الاتهام الجديد كي تزداد تصميماً على الانتقام من ذاتها, عادت مسرعة إلى سيارتها تنهب بها الطريق صوب الجامعة كي تدرك موعد الساعة التاسعة.
**********
في يوم استجمعت شتات نفسي ولملمت أشلاء روحي, وقررت أن أتوقف تماماً عن الذهاب لأي منهما أو الخروج بصحبتهما, استرحت لهذا القرار, وبالفعل امتنعت عن الذهاب لمكتب بهجت حامد أو منزله وتغيبت تماماً عن كل محاضراته. وعقب انتهاء اليوم الدراسي كنت أرفض بحسم عرض عماد اصطحابي بسيارته, وكنت أصر على أن أركب سيارتي بمفردي, بالطبع لم يتوقف عماد عن مطاردتي باسم حب كان بيننا, لكنني صدمته بقسوة.
ذات ليلة فوجئت ببهجت يزورني في الفيلا الخاصة بي, لم أسمح له بالدخول, أفهمته أن كل شيء قد انتهى, فأبدى تفهمه لموقفي وقال لي أنه يحترم اختياري بل وفاجأني بالقول بأنه سوف يساعدني فيما أريده, وأنه سيطلب من عماد أن يفعل نفس الشيء, وأنه سيرد لي كل الخطابات والهدايا, واعدني على اللقاء بمكتبه في تمام التاسعة صباح اليوم التالي لأستلم منه ما وعدني به.. استدار وعاد أدراجه مسرعاً, عندما ذهبت إليه في تمام التاسعة رحبّ بي باقتضاب وأبدى اعتذاره لأنه نسى أوراقي وهداياي بسيارته:
- سأحضرها لك فورا, يمكنك التسلي بمشاهدة هذا الفيلم الرائع ريثما أعود.
قالها وهو يشغل جهاز الكمبيوتر ويوجه شاشته ناحيتي ثم انطلق مسرعاً, خيل لي أنه عندما انصرف قد أغلق باب المكتب من الخارج بالمفتاح, لم أهتم لذلك كثيرا ففي حقيبة يدي مفتاح لمكتبه قد قلدته من قبل دون أن يدري, لم التفت إلى جهاز الكمبيوتر لأشاهد الفيلم الذي قال عنه إنه رائع, فأنا أعلم جيدا الأفلام الهابطة التي يشاهدها, وليت وجهي بعيداً عن الشاشة ورحت أمني نفسي بأن ساعة الخلاص قد قربت, لا.. لم أك أطمع أن تندمل جراح نفسي بمجرد ابتعادي عن حب بهجت وعماد, ولكني كنت آمل أن لا أضيف جرحاً جديداً لنفس قد أثقلتها جراح سنين طويلة, فجأة طرق سمعي صوت امرأة أعرفه جيداً, إنه صوتي أنا, التفت في فزع لأجد صورتي تملؤ الشاشة .. بعد لحظة ظهرت صورة عماد وهو يضع يده على كتفي, تمنيت بكل كياني أن يكون هذا كله مجرد كابوس مزعج, فقد كنت أعلم حتماً ما يحتويه هذا الفيلم, هجمت كالمجنونة على جهاز الكمبيوتر واستخرجت منه تلك الأسطوانة ورحت أحطمها بعنف, لم أشعر أنهما يقفان خلفي إلا عندما أطلقا ضحكات سخرية عالية التفت نحوهما ففاجأني بهجت بقوله..
- عندي نسخة ثانية
وقال عماد هو الأخر:
- وأنا عندي نسخة ثالثة.
دارت بي الغرفة وشعرت بأني انهار, سقطت مغشياً عليّ, وعندما أفقت كانا لا يزالان واقفين بينما كنت أنا ملقاة على الأرض, صاح بي بهجت متهكما:
- من يدعي الشجاعة ليخوض في هذا الطريق لابد أن يكون مستعداً لإكمال الشوط إلى نهايته.
تحاملت على نفسي وعلى البقية الباقية من كرامتي ودفنت وجهي بين أحذيتهما أقبّل حذاء هذا تارة وهذا تارة أخرى, وأنا أنتحب بشكل هستيري وأسألهما أن يعتقاني لوجه الله تعالى.
خٌيل إلىّ أن عمادا قد رقّ قلبه ورأف بحالي حينما قال:
- سنوافق.. وسنعطيك كل نسخ الفيلم لكن بشرط.
قلت له:
- اشترط كما شئت
قال بوقاحة متناهية:
- نريد واحدة أجمل منك
قلت في يأس:
-وما شأني أنا بذلك
قال:
-أنت تقدرين على ذلك
قلت:
- لست أقدر
قال:
- إذن أنت معنا إلى النهاية فلنعد كما كنا
هززت رأسي بشدة لأعلن عن عدم موافقتي, قال في خبث:
- هذا خير لك من الفضائح ، د.بهجت كان يريد وضع هذا الفيلم على ( الانترنت ) ليشاهده كل من يريد مشاهدته لا فى مصر وحدها بل في العالم كله.. وأنا قلت له لا داعي لذلك الآن, فكري جيداً.
أسقط في يدي, ضعفت, انهارت مقاومتي فعدت ألتمس منهما:
- فلتتزوجني أنت ولو عرفياً ألم تقل لي أنك تحبني؟
أبدى عماد تأففه من هذا الاقتراح في البداية قبل أن يقول:
- موافق سأفعل ولكن بعد حين.
سألته لماذا بعد حين؟
أجاب:
- بعدما أتأكد من أنك لن تتمردي مرة ثانية.
تأكدت أنهما يتلاعبان بي, لكن لم أجد مفراً إلا الرضوخ لهما, أسلمت جسدي لهما مرة ثانية, بعد أن عرفا كيف يحطماني, وبعت نفسي في سوق النخاسة بلا ثمن, ولكنني يومها عقدت العزم على أن أنتقم منهما, وأظن أنني اليوم امتلكت الإرادة الكافية للانتقام منهما وأيضا من نفسي.
زاغت عيني فاطمة وهي تقرأ هذه العبارات الأخيرة, وتسارعت أنفاسها, فقد أيقنت الآن أن شيئاً ما سيحدث خلال الأيام وربما الساعات القادمة, راحت تقلب صفحات الكراس وتدور بأعينها بسرعة بين السطور بحثاً عن هذا الشيء الغامض المرعب.
**********
عندما كانت عقارب الساعة تزحف ببطء لتشير إلى تمام التاسعة كانت ناهد تصعد سلم الكلية إلى الدور الثالث حيث يقع مكتبه, لقد كانت تعرف طريقها جيداً, وكما صعدت إليه من قبل عشرات المرات بل مئات المرات فيما يغضب الله, فاليوم تص
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://assemabdelmaged.alafdal.net
 
لحـــب والحــــرية
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
وسع للكبير :: أدب اسلامي :: أدب اسلامي-
انتقل الى: