وسع للكبير
مرحباً بك
فى منتدي الشيخ عاصم عبد الماجد
يشرفنا تواجدك معنا
وسع للكبير
مرحباً بك
فى منتدي الشيخ عاصم عبد الماجد
يشرفنا تواجدك معنا
وسع للكبير
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

وسع للكبير


 
الرئيسيةالرئيسية  أحدث الصورأحدث الصور  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  

 

 - دموع سراييفو -

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
Admin
Admin
Admin
Admin


الجنس : ذكر عدد المساهمات : 315
نقاط : 957
السٌّمعَة : 0
تاريخ التسجيل : 04/02/2013

- دموع سراييفو - Empty
مُساهمةموضوع: - دموع سراييفو -   - دموع سراييفو - Emptyالإثنين فبراير 04, 2013 10:08 pm

- دموع سراييفو -

بقلم / عاصم عبد الماجد

انفتح باب البيت وتقدم الطفل خطوات نحوه وصاح يناديه بصوت غير مفهوم فأسرع إليه وتناول من يده قطعة الخبز والجبن وأشار إليه أن يعود بسرعة مخافة أن تصيبه رصاصة طائشة.
إنه حامد جمعة الذي لم يجد عملا بعد تسريحه من الجيش عقب عودته من حرب الخليج, فسافر إلى ألمانيا حيث سبقه أخوه الأكبر منذ ست سنوات.. كثيرا ما كان يرسل إليه أن تعال لكنه كان يرفض فقد كان يرى أن بلده أحق بجهده.. لكنه الآن قد تخلى عن فكرته العتيقة تلك وسافر فالبلد لم تعد فيه فرصة عمل واحدة.
بصعوبة بالغة استطاع أخوه إقناع صاحب المطعم الذي يعمل عنده أن يلحق أخاه معه بنفس العمل.. كان الأجر زهيدا والسبب كما قال صاحب المطعم أنه لم يكن يحتاجه أصلا.. لم يكن أمامه إلا أن يقبل رغم كثرة ساعات العمل وقسوته وزهادة أجره فهذا أو التسول والبطالة.
مرت عليه أشهر ملؤها الضيق والملل.. فالعادات والأخلاق تختلف كثيرا عما ألفه في قريته التي قدم منها في أعماق صعيد مصر.
**********
عاد الطفل إلى أمه فرحا بأنه قد أدى مهمته التي أعتاد على القيام بها مرتين يوميا منذ أن حضر هذا الشاب العربي إلى شارعهم بمدينة سراييفو منذ قرابة أسبوع, احتضنته أمه وأغلقت الباب وصعدت وهي تحمله إلى الطابق الثاني حيث يقع مسكنها, كان هذا الطفل الذي لم يتجاوز عامه الرابع إلا بشهرين هو كل ما تبقى لها بعد أن مات زوجها قبل عدة أسابيع محترقا داخل متجره الذي تعرضّ لقصف عنيف ضمن بقية متاجر سوق البلدة.

***********
أحس براحة بالغة عندما وطئت قدماه للمرة الأولى أحد المراكز الإسلامية المنتشرة في ألمانيا, بسرعة تآلف مع رواد هذا المركز كان غالبيتهم من العرب وجنسيات أخرى أحبهم جميعا وكذلك أحبوه.. في الأشهر الأخيرة كان الحزن يخيم على كل من كان بالمركز فقد بدأ عدوان الصرب الوحشي على مسلمي البوسنة والهرسك, كثيرا ما اجتمعوا في حلقات تلاوة القرآن الكريم يرفعون بعدها أيديهم في دعاء طويل خاشع أن يرفع الله هذا البلاء عن إخوانهم.. كان يؤكد للجميع أن المجتمع الدولي لن يسكت على هذا العدوان فلقد شارك بنفسه في حرب اجتمعت فيها ثلاثون دولة ضد العراق عندما احتلت الكويت.. (لابد وأن دول العالم ستفعل نفس الشيء ضد الصرب).. هكذا قال لهم.
***********
كان القصف شديدا في هذه الليلة لم تستطع (ياسمينا) أن تخفي قلقها على صغيرها الذي اصطحبته إلى الدور الأرضي حسب التعليمات التي أصدرها (حامد) لسكان الشارع كلهم أن يتواجدوا في الأدوار السفلى أثناء تعرض الحي لقصف المدفعية..
***********
قبل أن يغادر المطعم في تلك الليلة كان قد التقط اسم بطرس غالي يتردد على لسان ابن صاحب المطعم وهو يتحدث مع والده – وهو بالطبع يعرف صاحب هذا الاسم -.. بعد أن أنهى فترة عمله عاد إلى المركز الإسلامي وجلس إلى الشيخ عامر الجزائري أمام المركز وطلب منه أن يحدثه عن دور بطرس غالي فيما يحدث في البوسنة.. أنصت إليه وهو لا يكاد يصدق ما يقوله, لم ينصرف ليلتها إلى مسكنه, بل ظل في المركز يطالع في مكتبته كل ما كتبته صحف الأسابيع السابقة عن القتال الدائر هناك.. هاله حجم المأساة.. والقتل والتعذيب والاعتقال والتشريد والخراب والدمار والطرد والتهجير.. توقف قليلا أمام مآسي اغتصاب المسلمات.. مزقته كلمة نشرتها إحدى الصحف عن فتاة تناوب اغتصابها عدد من جنود الصرب قالت: ظننت ساعتها أن كل رجال المسلمين قد قتلوا أو ماتوا.. نعم ماتوا.. فكيف يفعل بنا هذا وهم أحياء؟؟!!, فكل الصفحة وظل يبكي بحرقة حتى الصباح..
***********
أخيرا توقف القصف المدفعي الذي لم ينقطع منذ أيام ثلاثة.. شكرت جارتها التي استضافتها بمسكنها بالدور الأرضي طيلة هذه الأيام, واصطحبت صغيرها وصعدت إلى الدور الثاني أدارت مؤشر المذياع إلى عدة مجطات فجاءتها الأخبار المعتادة.. مجلس الأمن يرفض التدخل عسكريا لوقف المأساة.. مجلس الأمن يعلن وقف قافلات الإغاثة بعد تعرضها لهجمات الصرب.. ابتسمت في مرارة.. تريد أن تسمع شيئا عن شعوب وحكام بلاد المسلمين.. ألقت المذياع جانبا.. نامت والدموع في عينيها..
***********
صافح إخوانه بالمركز الإسلامي, وشد على يد الشيخ عامر وعانقه مودعا.. فلقد قرر.. وهو ذاهب لتنفيذ قراره.. كانت رحلة طويلة قطع بعضها بالطائرة وبعضها بالسيارة وبعضها سائرا على قدميه لمسافات طويلة.. كان من الممكن أن تكون رجلة ممتعة فالبلاد جميلة والحدائق والجبال والحقول تكاد تسحر العقول.. لكن المأساة محفورة في هذه الربوع.. وحجم المؤامرة التي تحاك ضد إخوانه الذين أتى لنصرتهم في البوسنة كل هذا جعله لا يفرح بما حوله.. مؤامرة في البوسنة.. وأخرى في الجزائر.. وثالثة في الهند.. مؤامرة في كل مكان.. كلنا ندور في رحى المؤامرة.. حانت منه التفاتة إلى حديقة جميلة.. استنشق شذى عبير طيب يفوح منها.. رفع يديه للسماء قائلا: اللهم إني أسألك الجنة.
***********
وقفت تصلي في خشوع.. لقد تعلمت الصلاة حديثا في دروس ألقاها الشاب العربي حامد عقب حضوره إلى مدينتها سراييفو.. فمنذ حضوره وهو حريص على الالتقاء بأهل الحي كلهم في المسجد كلما سنحت الفرصة لعقد لقاء.. لقد تأثرت كثيرا كما تأثر أهل الحي كلهم بحديثه عن الإيمان والطاعة وعن الصلة بالله والتعلق به وحده وحٌسن التوكل عليه.. حدّثهم أيضا عن الصبر والثبات وعن الشهادة.. كم كان متأثرا وهو يتحدث عن الشهادة حتى بكى وأبكاهم.. بعد أن فرغت من صلاتها أتى طفلها وجلس أمامها في براءة عجيبة.. قرأت في عينييه ملامح حزن عميق.. كم كانت تود لو استطاعت محو هذا الحزن لكن كيف تمحوه وهو يعيش في قلب المأساة منذ عدة أشهر غاب فيها والده ولن يعود وصار مستقبلها ومستقبله مهددا كل لحظة.. ثار التساؤل للمرة الألف في ذهنها: (أين المسلمون؟, أين حكامهم؟, أين سلاحهم؟, أين جيوشهم؟, لماذا تركونا لقمة سائغة في فم الصرب الكلاب؟!!).
***********

بمجرد وصوله انضم إلى معسكر المجاهدين في قرية بجوار العاصمة سراييفو.. لم يكن في حاجة إلى أي تدريب فقد تدرب في الجيش المصري.
تم إرساله إلى العاصمة لحماية شارع من أهم شوارعها والذي يستهدفه الصرب بهجماتهم لوقوعه في طرف المدينة.
لم يكن معه سوى رجلين من أهل الشارع نفسه وكانوا مسلحين بثلاث بنادق فقط.. طالب مرارا بأسلحة ثقيلة.. ابتسم قائده في مرارة وهو يقول:
لا يوجد.. لقد صدر قرار من الأمم المتحدة بمنع وصول أية أسلحة ثقيلة إلينا.. وهي متوفرة لدى الصرب كما ترى.. تذكر كلمات الشيخ عامر الجزائري: (نحن جميعا ضحية لمؤامرة).
في الأيام الأخيرة اشتدت هجمات الصرب.. تقدمت قوات المشاة عدة مرات تحاول اقتحام الشارع المكلف هو بحمايته.. قاتلهم بعنف وشراسة.. كان هو وصاحباه يتنقلون بسرعة بين عدة مواقع أعدوها للدفاع لصد الهجمات من ورائها.. استطاعوا إحباط أكثر من عشر محاولات للاختراق.
في المرة الأخيرة استشهد أحد صاحبيه وجرح الآخر جروحا خطيرة استدعت نقله إلى المستشفى.. لكن الهجوم فشل بحمد الله وانسحب الصرب.. وأعطوا لقيادتهم تقريرا يفيد وجود ما لا يقل عن ثلاثين رجلا يدافعون عن الشارع.. طالبوا بضرورة قصفه بضراوة للقضاء على مواقعه الدفاعية الحصينة..
************
قبل أن تدير صوت المذياع سمعت أصوات انفجارات مدوية.. هرعت إلى ولدها فاحتضنته وهرولت إلى الطابق الأرضي عند جارتها.. أحست أن القصف هذه المرة أعنف ما يكون.. ولم تفلح جارتها في تهدئتها.. سارعت إلى النافذة.. حاولت أن تمنعها لكنها لم ترجع.. أطلت برأسها وراحت بعينيين خائفتين تمسح الشارع بحثا عنه.. وجدته في الطرف البعيد وقد جثا على ركبتيه رافعا يديه إلى السماء وقد علق مدفعه الرشاش على كتفه.. لم يكن مدفعه يجدي شيئا وسط سيل القنابل الآتية من فوق الجبال المحيطة بمدينتهم.. رفعت هي أيضا يديها إلى السماء.. دوى انفجار عنيف فتحطم زجاج النافذة وجرح وجهها ويدها.. لم تشعر بالدماء تسيل منها.. عاودت النظر حيث كان يقف.. لم تجده.. كان الدخان كثيفا.. صرخت صرخة مكتومة جذبتها جارتها بعنف وأغلقت النافذة.. دخلت وهي تبكي.. وجدت صغيرها يبكي.. راح الثلاثة في بكاء مرير.. تعلو شهقاته مع دوي الانفجارات التي لا ترحم.
************
كان يهذي بكلمات غير مفهومة عن الشارع وعن النساء والصرب والأعراض والاغتصاب والمؤامرة.. إنه لا يزال تحت تأثير البنج.. عندما أفاق وجد ضمادة تلف وجهه وعينييه صارحه الأطباء بأنه قد فقد بصره وقطعت إحدى يديه.. أخبروه أنه قد نجا من الموت بأعجوبة بعد أن نزف ثمان ساعات عرف أنهم تابعون لقوات الأمم المتحدة لحفظ السلام..
طلب مقابلة أي قائد عسكري منهم سأله الطبيب: لماذا؟, أجابه: سأسأله لماذا لا يدافعون عن البوسنة؟, ضحك الطبيب في سخرية ثم قال: وهل دافعت عنها جيوشكم أنتم أيها المسلمون؟!, آلمته الكلمة طلب من الطبيب إعادته إلى سراييفو حتى يموت هناك مدافعا عن أهلها.. أخبره الطبيب أن الأمم المتحدة قد اتصلت بمصر وأنه سيتم ترحيله إلى بلده.. حاول مرارا إقناع كل من يقابله أن يتركوه يعود إلى سراييفو لكنهم رفضوا..
************
توقف القصف ودوت بعده طلقات رصاص قريبة.. ظنت أول الأمر أنه الشاب العربي لكن الطلقات كانت كثيفة.. ما هذا إنها تخترق باب المنزل.. سمعت طرقا شديدا بالبنادق على الباب.. قبل أن تتنبه هي وجارتها لما يحدث كان الباب قد بدأ يتحطم.. (إنهم هم).. صرخت واختطفت ابنها وهرولت إلى أقرب نافذة.. كانوا قد توسطوا المنزل بأسلحتهم.. قفزت من النافذة.. كان آخر ما رأته جارتها وهي محاصرة بين الجنود..
لم تصدق أنها قد صارت هي وصغيرها خارج المنزل.. أسرعت تجري وطلقات الرصاص من حولها تصم الآذان..
لم تدري أين تذهب كنها كانت تعدو وفي آذانها كلمات تتردد كانت سمعتها في المسجد عن الدين والعرض.. انكفأت أكثر من مرة على وجهها لكنها كانت تنهض مسرعة وتعدو محتضنة صغيرها الذي كان ينتحب بطريقة جنونية..
لم تتوقف إلا عندما اكتشفت أن قدميها تصعدان بها الجبل.. عادت أدراجها مسرعة.. فهي تعلم أن الصرب هناك فوق القمة.. تلفتت حولها.. لم تجد إلا الجبل أمامها والمدينة المحترقة خلفها.. أحست أنها محاصرة.. تذكرت فجأة جارتها التي تركتها هي الأخرى محاصرة بين الجنود..
انتفضت في فزع عندما تذكرت أنهم قد يغتصبوها..(لا بل قتلوها.. نعم قتلوها) هكذا راحت تتمتم وهي تحاول إقناع نفسها أنها شاهدتهم بالفعل يقتلونها.. كانت تتمنى من أعماق قلبها أن يكونوا قتلوها ولم يغتصبوها.. رفعت رأسها إلى السماء:
ــ رباه صار القتل أمنية!!
اكتشفت أن المذياع لا يزال بيدها.. همت أن تلقيه فوق الصخور ليتحطم.. ولكن بارقة أمل منعتها من ذلك
************
عندما أقلعت به الطائرة في طريقها إلى القاهرة تذكر عودته من حرب تحرير الكويت كان الجنود يومها يضحكون أما اليوم فهو يعود بمفرده وقد ملأ الحزن قلبه وكسا ملامحه.. سقطت من عينيه دموع كثيرة عندما تذكر الشارع الذي صار بلا حماية.. هز رأسه بعنف عدة مرات ليطرد عنه ذلك الخاطر الرهيب.. قال في صوت خفيض:
ــ لا.. لن يحدث.. لن يحدث.. لا لن يحدث..
بالأمس وهم عائدون من الخليج كان في انتظارهم سياسيون ورجال دين وكان معهم شيخ الأزهر.. راح يحدث نفسه أنهم سيكونون في انتظاره اليوم أيضا..
(لن يحضر الساسة بالطبع, ولكن سيأتي شيخ الأزهر.. نعم قطعا سيأتي شيخ الأزهر.. لا.. لن أطلب من أحد شيئا لنفسي, سأطالبهم بأسلحة ثقيلة للبوسنة, وقوات, نعم لابد أن تذهب قواتنا المسلحة إلى هناك.. ستأتي الصحافة اليوم.. سأرفض أن يكتبوا عني كلمة, سأحكي لهم كل ما فعله الصرب بالمسلمين, سأروي المؤامرة كاملة, سأفضح الدور القذر الذي لعبه بطرس غالي, سأحكي لشيخ الأزهر قصة اغتصاب المسلمات, سيغضب قطعا شيخ الأزهر وسيعلن الجهاد فيخرج الجيش ومعه عشرات الآلاف من المتطوعين ومعهم السلاح والذخائر.. سأتحدث أيضا في المساجد.. سأصرخ في الشباب أن أفيقوا.. فنصارى أوروبا يقتلون إخوانكم وأنتم هنا ترقصون على أنغام الديسكو!!!)..
هكذا كان يظن!!!!!!..
************
نزل الليل ثم طلع الصباح ولا زالت هي وصغيرها في مكانهم خلف صخرة كبيرة تحميهم من أعين الصرب, لم يفتأ صغيرها يسألها بصوت أنهكه الجوع والتعب وهز نبراته الخوف والبرد:
ــ لماذا لا نعود إلى البيت..
فكانت تجيبه:
ــ الدين والعرض.. الدين والعرض..
لاحت سيارة على الطريق الدائري المار بين الجبل والمدينة فانكمشت حتى لا يروها.. لا شك أنهم الأوغاد.. اكتشفت أنها كانت مخطئة إنها سيارة تابعة للأمم المتحدة مرسوم عليها شعار الأمم المتحدة.. خرجت مسرعة من مكانها ولوحت لقائد السيارة الذي توقف.. هرولت نحو السيارة وبيدها صغيرها.. هبط أحد الجنود وتقدم نحوها خاطبته قائلة:
ــ خذ هذا الصبي.. لقد سمعت أنكم تبعدون الأطفال عن البوسنة إلى دول أوروبا بعيدا عن القتال.. أرجوك أن تأخذه إلى هناك..
بكت ثم أردفت قائلة:
ــ أرجوكم أن تهتموا به.. قولوا لمن سيأخذونه منكم حافظوا عليه, إنه ولدي.. إنه.. إنه ولدي.. فلذة كبدي..
انهارت وهي تقولها.. اصطنع الجندي التأثر وهو يمسك بالطفل ويقول لها:
ــ وأنت يا سيدتي؟..
ــ سأبقى هنا..
ــ هناك خطورة عليك..
لاحظت أن نظراته جائعة.. خافت .. أرادت أن تجري مبتعدة لكنها كانت تريد أن تحتضن طفلها وتقبله للمرة الأخيرة.. نعم للمرة الأخيرة.. هبط من السيارة جندي آخر..
زاد خوفها: (يا إلهي حتى جنود الأمم المتحدة), نظرت إليهما متوسلة أن يتركاها تقبل طفلها ثم تمضي..
قال أحدهما في حزم مصطنع:
ــ سوف نصطحبك معنا.. مهمتنا الإنسانية تأبى أن نتركك في العراء..
فجأة انطلقت مدافع الصرب تهز الجبل والمدينة.. هرع الجنود بالصبي إلى السيارة التي راحت تبتعد والصبي يبكي ويلوح بيده الصغيرة من خلف زجاج السيارة إلى والدته التي كانت تعدو بمحاذاتهم وتلوح لصغيرها.. ضاعفت السيارة سرعتها, فانكفأت على الأرض.. قامت بسرعة تجري في أثار غبار سيارة تحمل ولدها..
عادت إلى الصخرة تمسح دمها ودموعها..
*************
في المطار كانوا في انتظاره, تقدم أحدهم نحوه وسأله:
ــ أأنت حامد جمعة؟.
ــ نعم..
قالها حامد وهو يمد يده ليصافح السائل فوضع الضابط قيدا حديديا في يده..
قال حامد في دهشة:
ــ ماذا تفعل؟, أجابه الضابط في سخرية: كما ترى,
ــ معذرة: أنا لا أرى,
حاول الضابط أن يضع القيد قي يده الثانية فلم يجدها..
ــ أين يدك الثانية؟..
ــ مقطوعة.. ماذا حدث؟!..أنا لم أرتكب جريمة.
ــ أتنكر أنك قادم من البوسنة وأنك كنت تحارب هناك؟..
ــ لست أنكر.. كنت أدافع عن المسلمين..
ــ إذن تعال معنا..
ــ إلى أين؟, ومن أنتم؟, وماذا تريدون؟.
صاح الضابط في الجنود:
ــ احملوه..
صرخ في عنف:
ــ أين شيخ الأزهر.. أريد شيخ.. يا شيخ الأزهر..
تجمع بعض السياح الموجودين بالمطار يستطلعون الأمر فابتسم لهم الضابط في احترام بالغ وهو يقول:
ــ معذرة.. أيها السادة.. هذا إرهابي.
*************
هذه هي ليلتها الرابعة بهذا المكان.. إنها الآن لا تقوى على مجرد الوقوف, فقد أنهكها الجوع والبرد والحزن على صغيرها وبيتها, والخوف على الدين والعرض.. ضاعف من حزنها أنها لم تسمع الآذان منذ اقتحم الجنود شارعها.. إنها ترى المأذنة من مكانها ولا تسمع آذانا, مدت يدا مرتعشة إلى المذياع فاليوم ينتهي مؤتمر القمة الإسلامية, وسيصدر قراراته الخاصة بالبوسنة والهرسك, (سيأمرون بلا شك بإرسال معونات سريعة وجيوش و سلاح ورجال).. هكذا قالت لنفسها وهي ترنو ببصرها إلى الطريق الدائري الذي مضت فيه السيارة بولدها.. خيل لها أنها ترى قوافل طويلة من جيوش المسلمين قادمة.. نعم هذا سلاحهم.. وهذه الدبابات والعربات المصفحة.. أفاقت على صوت المذياع:
ــ شجب واستنكار من رؤساء وملوك الدول الإسلامية لما يحدث في البوسنة والهرسك.. شهقت بصوت ضعيف وبكت بلا صوت ولا دموع.. رأت من وراء دموعها المحتبسة في المآقي مأذنة المسجد وكأنها تبكي.. كانت بيوت المدينة المحترقة كلها تبكي..
*************
في مكان آخر من أوروبا وقف الطفل خائفا أمام القس ذي اللحية الحمراء وراح يردد خلفه كلمات لا يدرك معناها عن الأب والابن والروح القدس..
أحس وقتها بحنين جارف إلى ذلك الشاب العربي حامد.. تساءل في نفسه: (متى سيأتي ليأخذني من هنا؟!)..
*************
عندما غربت شمس اليوم الخامس كانت ممدة إلى جوار الصخرة داخل جلبابها الواسع وخمارها..
لقد ماتت.. بينما كان المذياع يحكي وقائع الجلسة الأولى لمحاكمة عسكرية للشباب الذي قاتل في البوسنة ثم عاد.. وذلك وفق قانون الإرهاب الجديد..
بكى السحاب فسقط المطر غزيرا حتى أسكت المذياع.

انتهت

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://assemabdelmaged.alafdal.net
 
- دموع سراييفو -
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
وسع للكبير :: أدب اسلامي :: أدب اسلامي-
انتقل الى: